أدب أمريكا اللاتينية
** باسمة يونس
قراءة أدب مكتوب من أمريكا اللاتينية، تجلب للقارئ سعادة شديدة الصدق، تذكرني بتلك السعادة التي كنت أستشعرها كلما اكتشفت رواية من روايات الأدب الروسي أيام طفولتي، والمتعة اللامتناهية التي كنت أغترفها، كلما عدت إلى البيت، وهي تصحبني. لا بد، حينما تقرأ قصصاً لأدباء من أمريكا اللاتينية مثل غابرييل غارسيا ماركيز وأليخو كاربينتر وخورخي لويس بورخيس وغيرهم،أن تجد نفسك تسير في شوارع بيونس أيرس أو تعيش في حي شعبي من أحياء كارتاخينا دي اندياس أو حتى تقبع في سجن يعلو الصدأ أبوابه ومفاتيحه هناك. ولابد أن تشم رائحة الصلصة الشهية والفقر والتبغ والنساء السمر، وتتذكر ضحكة ماركيز المتحشرجة، وكل كلمة كتبها وتعلقت بروحك إلى ما لانهاية.
لقد جلبت لي قراءة مجموعة القصص المعنونة بموت في الشارع للكاتب خوسيه فيليكس فوينمايور مؤخراً والتي قام بترجمتها صالح علماني، وهي من إصدارات وزارة الثقافة في سوريا مع 15 كاتباً غيره، متعة ما بعدها متعة، وأنا أعيش تفاصيل حياة كل بطل من أبطال القصص وأمر وإياهم في مواقف قد تضعني في لحظات ضعف يمرون بها، إلى أن أخرج من قصة لأذهب إلى الأخرى بنفس الحيوية والرغبة في المتابعة بلا كلل. وجعلتني كل قصة منها أرى غابرييل ماركيز يتصدر بدايتها، كأنه يؤكد للناس أن أمريكا اللاتينية التي أنجبت كتاباً قبله ومعه قد أنجبت سواه وأكثر منه، وستبقى لهذا السبب حاملة شعلة الأدب إلى زمن يتجدد ويمتد إلى ما بعده بكثير.
لا شك أن متعة قراءة القصص القصيرة بشكل خاص تكمن في قدرة الكاتب على إحاطتك بكل ما ترغب في معرفته، بأقل عدد ممكن من الكلمات والصفحات، وأن يجعلك في النهاية تتحسر لأن القصة انتهت، فلا يبهجك شيء قدر رغبتك في إعادة قراءتها أو المتابعة مع قصة أخرى تسكنك قصر الشغف من جديد، وهذا ما فعلته مجموعة قصص موت في الشارع، وهو ما اعتاد غابرييل ماركيز على أن يفعله معنا في كل قصة جديدة أو رواية يصوغها.
إن هذا الكتاب القصصي الذي قرأت أول قصصه بلهفة، وبدأت في قراءة آخرها بتقتير، خشية خروجي من ذلك العالم المبتكر، والمثير إلى حد يجعل القصص الست عشرة وكأنها مكتوبة بقلم واحد، هو أحد الكتب التي تجمع بين غلافيها، قصصاً تجعلنا نخلص في قراءتها، حتى نخشى أن يفوتنا منها حرف أو كلمة، وهو الأدب الحقيقي الذي يسرقك من كل من حولك وما حولك، ويسكنك العالم الذي يصنعه لك الكاتب.
ولا شك أن ما ينجح من قصص وروايات في هذا العالم المختلف، هو ما يقدم الحكاية، على موائد أصحابها، بروحهم وكلماتهم، ورائحة المكان، وهو ما فعلته قصص أمريكا اللاتينية على الدوام، فأخرجت للعالم إبداعاً متميزا، يتنافس مع نفسه ويقدم أدباء لا مجال للتفريق بين روعة أحدهم عن الآخر.